مَن لا يفكر فيما يقول لا يريد أن يعرف شيئاً ممن لا يقول فيما يفكر فيه ابدا)
النتيجة النهائية للثقافة، ثقافتك وثقافتي، وثقافة كل إنسان، هي مجموع الأفكار وردود الأفعال والاستجابات التي توجد في داخل كل منا في ذاتنا الواعية، فلو لم يكن في ذاتك، وفي هذه اللحظة، صورة وشكل من ردود الفعل، التي يسمونها «القدرة على قراءة اللغة» ما كنت لترى على هذه الصفحة إلا إشارات، وخربشات سوداء مرسومة على بياض لا معنى لها، غير أنه بسبب تلك الأشكال المكتسبة من التجارب المتكررة.
ومن خلال التربية والتعليم، والتعلم، والحياة الاجتماعية، تمتلئ روحك بمشاعر الحماس الوطني لدى سماعك موسيقى النشيد الوطني، وتحس بالهيبة والإجلال والخشوع عند سماعك تلاوات مرتلة من القرآن الكريم، وتثار في «دخيلتك» فيض من المشاعر السارة والمفرحة إذا ما قرأت جواباً من حبيب غائب، وكثيراً ما ينتابنا الحزن والحسرة لقراءة مأساة إنسان، وعادة ما نشعر أن نفوسنا مفعمة بمشاعر لذيذة ممتعة عندما نقرأ نصاً جميلاً، أو ننصت إلى كلمات مثيرة ومدهشة ومرهفة…
هكذا هي الكلمات، دائماً ما تصيبنا بسهامها، وتنفذ إلى أعماق أعماقنا، وتهز جوارحنا بعنف، وتثير فينا أمواجاً عاتية من العواطف والانفعالات المتناقضة، وذلك بقدر ما تحمله من معانٍ ودلالات ورموز وإشارات، وبقدر ما نمتلك من قدرة على تفسير وفهم وتأويل أسرارها والاستجابة إليها، فالكلام هو الذي يشكِّلنا ويشكِّل ثقافتنا وأفكارنا وقيمنا ومعتقداتنا وأحلامنا وأوهامنا، ففي حياة الإنسان لا شيء خارج اللغة. إن اللغة، أو الكلام ليس أداة اتصال وتواصل بين الأنا والآخر، بين الأنت والأنا، بل بها ومن خلالها نفكر ونحلم، ونحب ونكره، نتذكر الماضي، ونشكو من الحاضر، وننظر إلى المستقبل، نتعلم ونبدع، نختلف ونتفق، نتقاتل ونتحاور عبر الكلام، وفيه وبسببه، فالكلمة نحلة أو ذبابة، حرب أو سلام.
وغني عن البيان، أن لكل منا تجارب مختلفة، وقوى ذاكرة مختلفة، واستجابات مختلفة، وربما لهجات مختلفة، وهذا يعود إلى الخصائص الفردية والإثنية والثقافية والسيكولوجية بين الناس، فكل إنسان لديه أشياء يحبها، أو يكرهها، لديه عقد سارة ومحزنة، سعيدة أو تعيسة، تأثر فيها دون غيرها، وهذا يدل بوضوح على أن الكلمة تثير انفعالات مختلفة عند الأشخاص المختلفين. فقد نتفق على ما يعنيه اللفظ «بحر» من الناحية الحرفية، ولكنني اختلف معك في الاستجابات التي يثيرها فينا هذا اللفظ «البحر»، فقد يثير لديك مشاعر الخوف والحزن والرهبة بسبب خبرة سابقة لك معه، كأن تكون قد تعرضت إلى حادث غرق لم تنجُ منه إلا بأعجوبة، أما أنا فعلى العكس، أحب البحر، وأهيم بجماله وعمقه وسحره وصخب أمواجه…
ولما كانت الكلمات تختلف في معانيها هذا القدر من الاختلاف، فلا يستطيع أحد أن يحدد بدقة التفسير الصحيح لما يجب أن تكون عليه تلك الكلمة قبل أن نلتقي بها، ونواجهها للمرة الثانية والثالثة والرابعة أي في كل مرة لحدوثها.. لكن المشكلة بالنسبة إلينا بصفتنا مجتمعاً شفاهي الثقافة، هي حسب ما عبَّر عنه عالم اللغة «مالينوفسكي» بحق، تكمن في أننا لانزال ننظر إلى الكلمات بوصفها قوة تأثير سحرية، وبسبب غياب الكتابة بوصفها ثقافة، فإن الكلمات لا تكون سوى أصوات، ولا يؤدي ذلك إلى التحكم في العمليات الفكرية أيضاً. فالمرء لا يعرف إلا ما يمكنه تذكره، هذا ما يجعل عملية التفكير نفسها تقوم داخل أنماط محفزة للتذكر ضيقة بصورة قابلة للتذكر الشفاهي، وينبغي أن يأتي تفكيرك منمطاً في أنماط ثقيلة الإيقاع، متوازنة، أو في جملة مكررة، أو في كلمات متجانسة في حروفها الأولى ومسجوعة، أو في عبارات وصفية، أو قائمة على الصيغ المتعارف عليها عند الجميع مثل: الحكم والأمثال…
إن إدراكنا العميق مدى الفرق القائم بين الكلمات، وبين ما تعبِّر عنه هذه الكلمات، لدليل على حُسن استعدادنا لمواجهة الاختلافات والتشابهات في العالم، وهذا الاستعداد هو المدخل الصحيح لكل تفكير عقلاني إنساني رشيد. إن الاقتراح البسيط الذي يمكن تقديمه إلى مَن يريدون تحسين عاداتهم في فهم معنى الكلمات، والتمييز بينها، هو إضافة أرقام دالة لتلك المصطلحات وفقاً للمعادلة التالية: البقرة (1) هي غير البقرة (2) والبقرة (2) هي غير البقرة (3)، والصحفي (1) هو غير الصحفي (2)… هكذا دواليك. علينا أن نتعلم كيف نفكر قبل أن نتكلم، علينا أن نتخلى عن الوصفات الجاهزة، والقناعات المسبقة التي تتحكم في مسار وتوجيه حياتنا الثقافية والاجتماعية، وختاماً: علينا تذكر «أن الجبن هو الجبن في نظر الفأر»، ولهذا تؤدي مصيدة الفئران عملها.
وما تفهمه من كلامي هو لك وما لا تفهمه دعه لغيرك!